فصل: بَابُ الْيَمِينِ فِي الْكَلَامِ وَغَيْرِهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ الْبِشَارَةِ:

(قَالَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِذَا قَالَ: أَيُّ غِلْمَانِي بَشَّرَنِي بِكَذَا فَهُوَ حُرٌّ فَبَشَّرَهُ بِذَلِكَ وَاحِدٌ ثُمَّ آخَرُ عَتَقَ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ بَشِيرٌ وَالْآخَرَ مُخْبِرٌ فَإِنَّ الْبَشِيرَ مَنْ يُخْبِرُهُ بِمَا غَابَ عَنْهُ عِلْمُهُ فَتَتَغَيَّرُ عِنْدَ سَمَاعِهِ بَشَرَةُ وَجْهِهِ، وَإِنَّمَا وُجِدَ هَذَا مِنْ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي.
وَإِنْ بَشَّرُوهُ مَعًا عَتَقُوا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَخْبَرَهُ بِمَا غَابَ عَنْهُ عِلْمُهُ فَالْعِلْمُ بِالْمُخْبَرِ بِهِ يَتَعَقَّبُ الْخَبَرَ وَلَا يَقْتَرِنُ بِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْبِشَارَةَ تَتَحَقَّقُ مِنْ الْجَمَاعَةِ قَوْله تَعَالَى وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ.
وَلَوْ بَعَثَ أَحَدَ غِلْمَانِهِ مَعَ رَجُلٍ بِالْبِشَارَةِ فَقَالَ: إنَّ غُلَامَك يُبَشِّرُك بِكَذَا عَتَقَ؛ لِأَنَّ عِبَارَةَ الرَّسُولِ كَعِبَارَةِ الْمُرْسِلِ فَالْبَشِيرُ هُوَ الْمُرْسَلُ وَالرَّسُولُ مُبَلِّغٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى «إنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُك بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ» وَإِنَّمَا سَمِعْت مِنْ رُسُلِ اللَّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ الْمَلَائِكَةُ ثُمَّ كَانَ بِشَارَةً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَتَبَ بِهِ إلَيْهِ كِتَابًا؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ بِالْكِتَابِ كَالْبَيَانِ بِاللِّسَانِ، فَإِنْ قَالَ: نَوَيْت الْمُشَافَهَةَ لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ فَإِنَّ الْبِشَارَةَ إنَّمَا تَكُونُ حَقِيقَةً مِنْهُ إذَا سَمِعَهُ بِعِبَارَتِهِ وَإِذَا قَالَ: أَيُّ غِلْمَانِي أَخْبَرَنِي بِكَذَا فَالْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالْكَاتِبُ وَالْمُرْسِلُ يَعْتِقُونَ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ مُتَحَقِّقٌ مِنْهُمْ فَقَدْ يُخْبَرُ الْمَرْءُ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ لَهُ كَمَا يُخْبَرُ بِمَا غَابَ عَنْهُ عِلْمُهُ إلَّا أَنْ يَعْنِيَ الْمُشَافَهَةَ فَتَعْمَلُ نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّهُ حَقِيقَةُ كَلَامِهِ وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسِخَ الْأَصْلِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْأَخْبَارِ وَالْإِعْلَامِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْإِعْلَامَ يَحْصُلُ بِالْكِتَابِ وَالرَّسُولِ كَالْأَخْبَارِ فَأَمَّا الْإِعْلَامُ لَا يَكُونُ مِنْ الثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْإِعْلَامَ إيقَاعُ الْعِلْمِ بِالْخَبَرِ وَذَلِكَ لَا يَتَكَرَّرُ بِخِلَافِ الْأَخْبَارِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي بِهَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ وَلَا يَقُولُ أَعْلَمَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ؟ وَإِذَا قَالَ: أَيُّ غِلْمَانِي حَدَّثَنِي فَهُوَ عَلَى الْمُشَافَهَةِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: كَلَّمَنِي، أَلَا تَرَى أَنَّا نَقُولُ: أَخْبَرَنَا اللَّهُ بِكَذَا بِكِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، وَلَا نَقُولُ: حَدَّثَنَا اللَّهُ وَلَا كَلَّمَنَا اللَّهُ؟ وَإِنْ حَلَفَ إنْ عَلِمَ بِمَكَانِ فُلَانٍ لَيُخْبِرَنَّكَ بِهِ ثُمَّ عَلِمَا جَمِيعًا فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُخْبِرَهُ لِيَبَرَّ؛ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ يَتَحَقَّقُ، وَإِنْ كَانَ الْمُخْبَرُ بِهِ مَعْلُومًا لَهُ، وَلَوْ قَالَ: لَيُعْلِمَنَّكَ بِهِ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ حَانِثٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُمَا إذَا عَلِمَا جَمِيعًا بِهِ فَمَا هُوَ شَرْطُ بِرِّهِ وَهُوَ الْإِعْلَامُ فَائِتٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: لَأَشْرَبَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي الْكُوزِ وَلَا مَاءَ فِيهِ وَإِنْ قَالَ: يَوْمَ أَفْعَلُ كَذَا فَعَبْدُهُ حُرٌّ فَفَعَلَهُ لَيْلًا عَتَقَ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْوَقْتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلَّا مُتَحَرِّفًا} وَالرَّجُلُ يَقُولُ: أَنْتَظِرُ يَوْمَ فُلَانٍ وَيُذْكَرُ، وَالْمُرَادُ بَيَاضُ النَّهَارِ فَقُلْنَا: إذَا قُرِنَ بِهِ مَا يَمْتَدُّ كَالصَّوْمِ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ بَيَاضُ النَّهَارِ، وَإِذَا قُرِنَ بِهِ مَا لَا يَمْتَدُّ فَالْمُرَادُ بِهِ الْوَقْتُ وَإِنَّمَا قَرَنَ بِذِكْرِ الْيَوْمِ هُنَا فِعْلًا لَا يَمْتَدُّ فَكَانَ بِمَعْنَى الْوَقْتِ.
وَإِنْ قَالَ: نَوَيْت النَّهَارَ دُونَ اللَّيْلِ دِينَ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وَهِيَ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ.
وَإِنْ قَالَ: لَيْلَةَ أَفْعَلُ كَذَا فَهُوَ عَلَى اللَّيْلِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ ضِدُّ النَّهَارِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} وَكَمَا أَنَّ النَّهَارَ مُخْتَصٌّ بِزَمَانِ الضِّيَاءِ فَاللَّيْلُ مُخْتَصٌّ بِزَمَانِ الظُّلْمَةِ وَالسَّوَادِ.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَبِيتُ فِي مَكَانِ كَذَا فَأَقَامَ فِيهِ وَلَمْ يَنَمْ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الْبَيْتُوتَةَ هُوَ الْمُكْثُ وَالْقَرَارُ بِاللَّيْلِ فِي مَكَان وَلِهَذَا يُسَمَّى الْمَوْضِعُ الَّذِي يَكُونُ الْمَرْءُ فِيهِ بِاللَّيْلِ مَبِيتًا، وَاللَّفْظُ لَا يَدُلُّ عَلَى النَّوْمِ وَالْيَقِظَةِ فَيَحْنَثُ نَامَ أَوْ لَمْ يَنَمْ، إلَّا أَنْ يَعْنِيَ النَّوْمَ فَيَكُونُ عَلَى مَا نَوَى؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي لَفْظِهِ وَالْعُرْفُ وَالِاسْتِعْمَالُ يَشْهَدُ لَهُ وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ، وَإِنْ أَقَامَ فِيهِ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى مَنْزِلِهِ.
وَإِذَا سُئِلَ أَيْنَ بَاتَ قَالَ: فِي مَنْزِلِي، وَلِأَنَّ الْأَكْثَرَ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْكَمَالِ وَالْأَقَلُّ تَبَعٌ لِلْأَكْثَرِ، فَإِذَا أَقَامَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ فَكَأَنَّهُ أَقَامَ فِيهِ جَمِيعَ اللَّيْلِ فَيَحْنَثُ وَإِنْ حَلَفَ لَا يُظِلُّهُ ظِلُّ بَيْتٍ فَدَخَلَ بَيْتًا حَنِثَ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ عِبَارَةٌ عَنْ الدُّخُولِ فِي عُرْفِ النَّاسِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُظِلُّهُ ظِلُّ الْبَيْتِ إذَا دَخَلَ تَحْتَ سَقْفِهِ، وَإِنْ أَقَامَ فِي ظِلِّهِ خَارِجًا لَمْ يَحْنَثْ إلَّا أَنْ يَنْوِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ عِبَارَةٌ عَنْ الدُّخُولِ لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْوِيهِ بَيْتٌ فَآوَاهُ بَيْتٌ سَاعَةً مِنْ اللَّيْلِ أَوْ النَّهَارِ ثُمَّ خَرَجَ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَكُونَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ أَوْ النَّهَارِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْإِيوَاءَ وَالْبَيْتُوتَةَ تَتَقَارَبُ فِي الِاسْتِعْمَالِ، إلَّا أَنَّ الْبَيْتُوتَةَ فِي اللَّيْلِ خَاصَّةً، يُقَالُ: بَاتَ فُلَانٌ يَفْعَلُ كَذَا إذَا فَعَلَ لَيْلًا، وَظَلَّ يَفْعَلُ كَذَا إذَا فَعَلَهُ نَهَارًا، فَأَمَّا الْإِيوَاءُ يُسْتَعْمَلُ فِيهِمَا، ثُمَّ الْبَيْتُوتَةُ لَا تَكُونُ إلَّا فِي أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ فَكَذَلِكَ الْإِيوَاءُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ أَوْ النَّهَارِ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: إذَا دَخَلَ سَاعَةً حَنِثَ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْإِيوَاءَ بِالْحُصُولِ فِي مَكَان، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {سَآوِي إلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي} أَيْ أَلْتَجِئُ إلَيْهِ فَأَكُونُ فِيهِ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَا آوَانِي وَإِيَّاكَ ظِلُّ بَيْتٍ مَا دُمْت عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، أَيْ: لَا أَجْتَمِعُ مَعَك، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَا آوَاهُ الْحِرْزُ فَفِيهِ الْقَطْعُ» فَإِذَا أَوَاهُ الْحِرْزُ أَيْ: حَصَلَ فِيهِ، فَإِذَا دَخَلَ الْبَيْتَ سَاعَة فَقَدْ وُجِدَ الْإِيوَاءُ فَيَحْنَثُ.
وَلَوْ أَدْخَلَ إحْدَى قَدَمَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ مَا حَصَلَ فِي الْبَيْتِ بِإِدْخَالِ إحْدَى الْقَدَمَيْنِ وَكَذَلِكَ إنْ أَدْخَلَ جَسَدَهُ وَهُوَ قَائِمٌ وَلَمْ يُدْخِلْ رِجْلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ اعْتِمَادَ الْقَائِمِ عَلَى رِجْلَيْهِ وَالْجَسَدُ تَبَعٌ لِلرِّجْلَيْنِ، فَإِذَا لَمْ يُدْخِلْهُمَا لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا فِي الْبَيْتِ فَلَا يَحْنَثُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

.بَابُ الْيَمِينِ فِي الْكَفَالَةِ:

(قَالَ) وَإِذَا حَلَفَ لَا يَكْفُلُ بِكَفَالَةٍ فَكَفَلَ بِنَفْسِ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ دَابَّةٍ أَوْ بِدَرَكٍ فِي بَيْعٍ فَهُوَ حَانِثٌ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ بِمَا عَلَى الْغَيْرِ مِنْ تَسْلِيمِ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَيُسَمَّى بِهِ فِي النَّاسِ كَفِيلًا، وَالْمُتَحَرِّزُ مِنْ الْكَفَالَةِ يَكُونُ مُمْتَنِعًا مِنْ ذَلِكَ فَيَحْنَثُ، وَالضَّمَانُ وَالْقَبَالَةُ قِيَاسُ الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالًا وَاحِدًا.
وَإِذَا حَلَفَ لَا يَكْفُلُ عَنْ إنْسَانٍ بِشَيْءٍ فَكَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ صِلَةَ عَنْ لَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ فَأَمَّا الصِّلَةُ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ الْبَاءُ يُقَالُ: كَفَلَ بِنَفْسِ فُلَانٍ وَكَفَلَ عَنْ فُلَانٍ بِكَذَا مِنْ الْمَالِ وَإِنْ حَلَفَ لَا يَكْفُلُ عَنْهُ بِشَيْءٍ فَاشْتَرَى لَهُ بِأَمْرِهِ شَيْئًا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ بِمَا عَلَى الْغَيْرِ وَالثَّمَنُ بِالشِّرَاءِ هُنَا فِي ذِمَّةِ الْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ فَلَا يَكُونُ الْوَكِيلُ كَفِيلًا عَنْ الْمُوَكِّلِ بَلْ يَكُونُ هُوَ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ وَلِهَذَا طَالَبَهُ بِالثَّمَنِ وَإِنْ أَبْرَأَهُ الْبَائِعُ عَنْهُ وَحَبَسَ الْمَبِيعَ عَنْهُ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ.
وَإِنْ كَفَلَ بِأَمْرِهِ عَنْ إنْسَانٍ شَيْئًا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ عَنْ الْآمِرِ شَيْئًا هُوَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْتَزَمَ مَا عَلَى الْمَطْلُوبِ وَلَكِنْ بِمَسْأَلَةِ الْآمِرِ فَكَانَ كَفِيلًا عَنْ الْمَطْلُوبِ دُونَ الْآمِرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَبْرَأُ بِبَرَاءَةِ الْمَطْلُوبِ، وَأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ عِنْدَ الْأَدَاءِ عَلَى الْآمِرِ بِشَيْءٍ؟ وَإِنَّمَا يَرْجِعُ عَلَى الْمَطْلُوبِ إذَا كَانَ ذَلِكَ بِسُؤَالِهِ.
وَلَوْ كَانَ الْمَالُ عَلَى فُلَانٍ وَبِهِ كَفِيلٍ فَأَمَرَ فُلَانٌ الْحَالِفَ فَكَفَلَ بِهَا عَنْ كَفِيلِهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ غَيْرُ الْأَصِيلِ وَهُوَ إنَّمَا كَفَلَ عَنْ الْكَفِيلِ، وَشَرْطُ حِنْثِهِ الْكَفَالَةُ عَنْ الْأَصِيلِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَرِئَ الْكَفِيلُ الْأَوَّلُ بَرِئَ الْكَفِيلُ الثَّانِي، وَإِنْ بَقِيَ الْمَالُ عَلَى الْأَصِيلِ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَكْفُلُ لَهُ فَكَفَلَ لِغَيْرِهِ وَالدَّرَاهِمُ أَصْلُهَا لَهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَهُ أَنْ يَلْتَزِمَ مُطَالَبَةً عَلَيْهِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمُطَالَبَةَ إنَّمَا تَتَوَجَّهُ لِلْمَكْفُولِ لَهُ دُونَ مَنْ يَمْلِكُ أَصْلَ الْمَالِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَفَلَ لِعَبْدِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ الْمُطَالَبَةَ لِلْمَوْلَى إنَّمَا الْتَزَمَهَا لِلْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْمَالِ لِلْمَوْلَى، وَلَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ لَفْظِ الْحَالِفِ فِي بِرِّهِ وَحِنْثِهِ.
وَإِنْ كَفَلَ لِفُلَانٍ وَأَصْلُ الدَّرَاهِمِ لِغَيْرِهِ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمُطَالَبَةَ لِفُلَانٍ وَمَتَى كَانَ وُجُوبُ الْمَالِ بِعَقْدِهِ فَفِي حُكْمِ الْمُطَالَبَةِ كَانَ الْوَاجِبُ لَهُ وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْمِلْكِ لِغَيْرِهِ وَإِنْ حَلَفَ لَا يَكْفُلُ عَنْهُ فَضَمِنَ عَنْهُ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ وَالْكَفَالَةَ تَتَقَارَبُ فِي الِاسْتِعْمَالِ كَالْهِبَةِ مَعَ التَّخَلِّي وَالْعُمْرَى، وَإِنْ كَانَ عَنِيَ اسْمَ الْكَفَالَةِ أَنْ لَا يَكْفُلَ وَلَكِنْ يَضْمَنُ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ لَفْظِهِ وَلَكِنَّهُ نَوَى الْفَصْلَ بَيْنَ الضَّمَانِ وَالْكَفَالَةِ وَهَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَكْفُلُ عَنْ فُلَانٍ وَأَحَالَ فُلَانٌ عَلَيْهِ بِمَالِهِ عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُحْتَالِ لَهُ دَيْنٌ عَلَى الْمُحِيلِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ عَنْهُ أَنْ يَلْتَزِمَ الْمُطَالَبَةَ عَنْهُ لِغَيْرِهِ بِمَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَبْلَ الْكَفَالَةِ وَذَلِكَ لَمْ يُوجَدْ هُنَا إنَّمَا وَكَّلَ فُلَانٌ الْمُحْتَالُ لَهُ بِقَبْضِ دَيْنِهِ مِنْ الْحَالِفِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ كَفَالَةً عَنْهُ لِلْمُحْتَالِ لَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ ضَمِنَهُ لَهُ.
وَلَوْ كَانَ لِلْمُحْتَالِ لَهُ عَلَى الْمُحِيلِ مَالٌ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُحِيلِ مَالٌ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمُطَالَبَةَ عَنْهُ لِلْمُحْتَالِ لَهُ بِمَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَالِالْتِزَامُ بِقَبُولِ الْحَوَالَةِ أَبْلُغُ مِنْ الِالْتِزَامِ بِالْكَفَالَةِ وَالضَّمَانِ فَإِذَا كَانَ يَحْنَثُ هُنَاكَ فَكَذَلِكَ يَحْنَثُ هُنَا؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي حَقِّ الْمُلْتَزِمِ إنَّمَا الْفَرْقُ فِي حَقِّ الْمَضْمُونِ عَنْهُ أَنَّ الْحَوَالَةَ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ وَالْكَفَالَةُ لَا تُوجِبُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.

.بَابُ الْيَمِينِ فِي الْكَلَامِ وَغَيْرِهِ:

(قَالَ) وَإِذَا حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ الْيَوْمَ ثُمَّ صَلَّى لَمْ يَحْنَثْ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ يَحْنَثُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مُتَكَلِّمٌ فَإِنَّ التَّكَلُّمَ لَيْسَ إلَّا تَحْرِيكُ اللِّسَانِ وَتَصْحِيحُ الْحُرُوفِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مَفْهُومًا مِنْ الْعِبَادِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَتَى بِهِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ كَانَ حَانِثًا؟ فَكَذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا يُتَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ» وَلَا يَفْهَمُ أَحَدٌ مِنْ هَذَا تَرْكَ الْقِرَاءَةِ وَأَذْكَارِ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ فِي الْعُرْفِ يُقَالُ: فُلَانٌ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي صَلَاتِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَتَى بِأَذْكَارِ الصَّلَاةِ، وَيُقَالُ: حُرْمَةُ الصَّلَاةِ تَمْنَعُ الْكَلَامَ وَلَا يُرَادُ بِهِ الْأَذْكَارُ، وَالْعُرْفُ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَيْمَانِ، فَأَمَّا إذَا قَرَأَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أَوْ سَبَّحَ أَوْ هَلَّلَ أَوْ كَبَّرَ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَكَلَّمَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَإِنَّ التَّكَلُّمَ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْأَخْرَسِ وَالْقِرَاءَةُ وَالذِّكْرُ بِاللِّسَانِ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْأَخْرَسِ فَكَانَ كَلَامًا؟ وَكَذَلِكَ لَوْ أَنْشَدَ شِعْرًا أَوْ تَكَلَّمَ بِأَيِّ لِسَانٍ كَانَ فَهُوَ حَانِثٌ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا فَنَادَاهُ مِنْ بَعِيدٍ فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ صَوْتَهُ لَا يَحْنَثُ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَسْمَعُ صَوْتَهُ فَهُوَ حَانِثٌ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُكَلِّمًا فُلَانًا بِإِيقَاعِ صَوْتِهِ فِي أُذُنِهِ فَإِذَا كَانَ مِنْ الْبُعْدِ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ بِحَيْثُ يَسْمَعُ فَقَدْ أَوْقَعَ صَوْتَهُ فِي إذْنِهِ وَإِنْ لَمْ يَفْهَمْ لِتَغَافُلِهِ عَنْهُ وَاشْتِغَالِهِ بِغَيْرِهِ فَيَحْنَثُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَوَّلَ يُسَمَّى هَاذِيًا وَالثَّانِيَ يُسَمَّى مُنَادِيًا لَهُ؟ وَكَذَلِكَ لَوْ نَادَاهُ وَهُوَ نَائِمٌ فَأَيْقَظَهُ حَنِثَ وَهَذَا ظَاهِرٌ وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسِخَ الْأَصْلِ فَنَادَاهُ أَوْ أَيْقَظَهُ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَنْتَبِهْ بِنِدَائِهِ فَهُوَ حَانِثٌ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ صَوْتَهُ فِي أُذُنِهِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ لِمَانِعٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ النَّائِمَ كَالْغَائِبِ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَبِهْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ نَادَاهُ مِنْ بَعِيدٍ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ صَوْتَهُ فَلَا يَكُونُ حَانِثًا، وَإِذَا انْتَبَهَ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ أَسْمَعَهُ صَوْتَهُ فَيَكُونُ مُكَلِّمًا لَهُ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى الْخِلَافِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ النَّائِمَ كَالْمُنْتَبِهِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَحْنَثُ، بَيَانُهُ فِيمَنْ رَمَى سَهْمًا إلَى صَيْدٍ فَوَقَعَ عِنْدَ نَائِمٍ حَيًّا ثُمَّ لَمْ يُدْرِكْ ذَكَاتَهُ حَتَّى مَاتَ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي كِتَابِ الصَّيْدِ.
وَإِنْ مَرَّ عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَهُوَ فِيهِمْ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ مُخَاطِبٌ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِسَلَامِهِ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْقَوْمُ دُونَهُ فَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُكَلِّمًا لَهُ إذَا قَصَدَ بِالْخِطَابِ غَيْرَهُ وَلَكِنَّهُ لَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ فِي الظَّاهِرِ مُخَاطِبٌ لَهُمْ.
وَإِنْ كَتَبَ إلَيْهِ أَوْ أَرْسَلَ لَمْ يَحْنَثْ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا مُشَافَهَةً، أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدًا مِنَّا لَا يَسْتَجِيزُ أَنْ يَقُولَ: كَلَّمَنِي اللَّهُ وَقَدْ أَتَانَا كِتَابُهُ وَرَسُولُهُ؟ وَإِنَّمَا يُقَالُ: كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا؛ لِأَنَّهُ أَسْمَعَهُ كَلَامَهُ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْمَى أَوْ أَشَارَ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَا لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْأَخْرَسِ وَالْإِيمَاءُ وَالْإِشَارَةُ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ فَلَا يَكُونُ كَلَامًا وَذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: سَأَلَنِي هَارُونُ عَمَّنْ حَلَفَ لَا يَكْتُبُ إلَى فُلَانٍ فَأَمَرَ أَنْ يُكْتَبَ إلَيْهِ بِإِيمَاءٍ أَوْ إشَارَةٍ هَلْ يَحْنَثُ فَقُلْت: نَعَمْ إذَا كَانَ مِثْلُك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ السُّلْطَانَ لَا يَكْتُبُ بِنَفْسِهِ عَادَةً إنَّمَا يَأْمُرُ بِهِ غَيْرَهُ وَمِنْ عَادَتِهِمْ الْأَمْرُ بِالْإِيمَاءِ وَالْإِشَارَةِ، وَعَنْ ابْنِ سِمَاعَةَ قَالَ: سَأَلْت مُحَمَّدًا عَمَّنْ حَلَفَ لَا يَقْرَأُ كِتَابًا لِفُلَانٍ فَنَظَرَ فِيهِ حَتَّى فَهِمَهُ وَلَمْ يَقْرَأْهُ فَقَالَ: سَأَلَ هَارُونُ أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذَا وَكَانَ قَدْ اُبْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَقَالَ: لَا يَحْنَثُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ نَدِمَ وَقَالَ أَمَّا أَنَا فَلَا أَقُولُ فِيهِ شَيْئًا، وَذَكَرَ هِشَامٌ وَابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْوُقُوفُ عَلَى مَا فِيهِ لَا عَيْنُ الْقِرَاءَةِ، وَفِي الْأَيْمَانِ يُعْتَبَرُ الْمَقْصُودُ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ اللَّفْظَ مُرَاعًى وَلَفْظُهُ الْقِرَاءَةُ وَالنَّظَرُ وَالتَّفَكُّرُ لِيَفْهَمَ لَا يَكُونُ قِرَاءَةً، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَأَدَّى بِهِ فَرْضُ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ؟ وَإِنْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُ مَوْلَاك وَلَهُ مَوْلَيَانِ أَعْلَى وَأَسْفَلُ وَلَا نِيَّةَ لَهُ حَنِثَ بِأَيِّهِمَا كَلَّمَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُ جَدَّك وَلَهُ جَدَّانِ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ؛ لِأَنَّ هَذَا اسْمٌ مُشْتَرَكٌ وَالْأَسْمَاءُ الْمُشْتَرَكَةُ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ تَعُمُّ؛ لِأَنَّ مَعْنَى النَّفْيِ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ التَّعْمِيمِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّكِرَةِ تَعُمُّ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ دُونَ الْإِثْبَاتِ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْوَصِيَّةِ لِمَوْلَاهُ وَقَدْ بَيَّنَّا تَمَامَ هَذَا الْفَرْقِ فِي الْجَامِعِ.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يُفَارِقُ غَرِيمَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مَالِهِ عَلَيْهِ فَلَزِمَهُ ثُمَّ فَرَّ مِنْهُ الْغَرِيمُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ فِي الْمُفَارَقَةِ وَهُوَ مَا فَارَقَ غَرِيمَهُ إنَّمَا الْغَرِيمُ هُوَ الَّذِي فَارَقَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَابَرَهُ حَتَّى انْفَلَتَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِيَمِينِهِ مَنْعَ نَفْسِهِ عَمَّا فِي وُسْعِهِ دُونَ مَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ.
(قَالَ): وَلَوْ أَنَّ الْمَطْلُوبَ أَحَالَ بِالْمَالِ عَلَى رَجُلٍ وَأَبْرَأَهُ الطَّالِبُ مِنْهُ ثُمَّ فَارَقَهُ لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ مَا جَعَلَهُ غَايَةً وَهُوَ اسْتِيفَاءُ مَالِهِ عَلَيْهِ قَدْ فَاتَ حِينَ بَرِئَ الْمَطْلُوبُ بِالْحَوَالَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فَوْتَ الْغَايَةِ عِنْدَهُمَا يُسْقِطُ الْيَمِينَ لَا إلَى حِنْثٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا فِي قَوْلِهِ لَا أُكَلِّمُك حَتَّى يَأْذَنَ لِي فُلَانٌ فَإِنْ نَوَى الْمَالَ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَرَجَعَ الطَّالِبُ إلَى الْمَطْلُوبِ لَمْ يَحْنَثْ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ تَنْفَسِخُ بِالتَّوَى وَلَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَإِنَّمَا تَنْفَسِخُ الْحَوَالَةُ فِي حَقِّ حُكْمٍ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَسُقُوطُ الْيَمِينِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَلِهَذَا لَا يَعُودُ الْيَمِينُ بِانْفِسَاخِ الْحَوَالَةِ وَإِنْ لَمْ يَحِلَّ بِالْمَالِ وَلَكِنَّهُ قَضَاهُ وَفَارَقَهُ ثُمَّ وَجَدَهُ زُيُوفًا أَوْ بَهْرَجَةً أَوْ سُتُّوقًا فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْفِضَّةُ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ رَدَّهُ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَوْفٍ بِالْقَبْضِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَجَوَّزَ بِهَا فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ جَازَ؟ فَتَمَّ شَرْطُ بِرِّهِ ثُمَّ انْتَقَضَ قَبْضُهُ بِالرَّدِّ فَلَا يَنْتَقِضُ بِهِ حُكْمُ الْبِرِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَاضَ وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ النُّحَاسُ كَالسَّتُّوقَةِ فَهُوَ حَانِثٌ؛ لِأَنَّهُ مَا صَارَ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ بِالْقَبْضِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَجَوَّزَ بِهِ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ لَا يَجُوزُ.
وَإِنْ اسْتَحَقَّ الْمَقْبُوضَ مِنْ يَدِهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَوْفٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَجَازَهُ الْمُسْتَحِقُّ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ جَازَ؟ ثُمَّ انْتَقَضَ قَبْضُهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ بَعْدَ حُصُولِ الِاسْتِيفَاءِ وَشَرْطُ الْبِرِّ لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَاضَ.
وَإِنْ حَلَفَ لَيُعْطِيَنَّهُ حَقَّهُ عَنْ قَرِيبٍ فَهُوَ وَقَوْلُهُ عَاجِلًا سَوَاءٌ، وَإِنْ نَوَى وَقْتًا فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى؛ لِأَنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا قَرِيبٌ عَاجِلٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ عَلَى أَقَلِّ مِنْ شَهْرٍ اسْتِحْسَانًا وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا.
وَإِنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَحْبِسَ عَنْهُ مِنْ حَقِّهِ شَيْئًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْطِيَهُ سَاعَةَ حَلَفَ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ عِبَارَةٌ عَنْ التَّأْخِيرِ فَإِنْ لَمْ يُؤَخِّرْهُ بَعْدَ الْحَلِفِ لَمْ يَكُنْ حَابِسًا، وَإِنْ أَخَّرَهُ كَانَ حَابِسًا وَلَكِنَّ الْحَبْسَ قَدْ يَطُولُ وَيَقْصُرُ فَإِنْ حَاسَبَهُ فَأَعْطَاهُ كُلَّ شَيْءٍ لَهُ عِنْدَهُ وَأَقَرَّ بِذَلِكَ الطَّالِبُ ثُمَّ أَتَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَيَّامٍ فَقَالَ: بَقِيَ لِي عِنْدَك كَذَا مِنْ قَبْلِ كَذَا فَذَكَرَ الْمَطْلُوبَ ذَلِكَ وَقَدْ كَانَ نَسِيَا ذَلِكَ جَمِيعًا لَمْ يَحْنَثْ إذَا أَعْطَاهُ سَاعَتَئِذٍ، أَوْ قَالَ لَهُ: خُذْهُ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا لَا يَكُونُ مَعْلُومًا لَهُمَا وَبَعْدَ التَّذَكُّرِ لَمْ يَحْبِسْهُ وَلَكِنَّهُ أَعْطَاهُ بِالْمُنَاوَلَةِ أَوْ التَّخْلِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَلِهَذَا لَمْ يَحْنَثْ.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَقْعُدُ عَلَى الْأَرْضِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَقَعَدَ عَلَى بِسَاطٍ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَ عَلَى الْأَرْضِ مَنْ يُبَاشِرُ الْأَرْضَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ مَا هُوَ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ وَفِي الْعُرْفِ الرَّجُلُ يَقُولُ لِغَيْرِهِ اجْلِسْ عَلَى الْبِسَاطِ وَلَا تَجْلِسْ عَلَى الْأَرْضِ وَيَقُولُ فُلَانٌ جَالِسٌ عَلَى الْأَرْضِ وَفُلَانٌ عَلَى الْبِسَاطِ وَالْعُرْفُ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَيْمَانِ.
وَإِنْ قَعَدَ عَلَى الْأَرْضِ وَلِبَاسُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى فِي النَّاسِ قَاعِدًا عَلَى الْأَرْضِ وَلِأَنَّ الْمَلْبُوسَ تَبِعَ اللَّابِسَ فَلَا يَصِيرُ حَائِلًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْجُلُوسِ عَلَى الْأَرْضِ لِكَيْ لَا تَضُرَّ بِهِ وَهَذَا يُوجَدُ، وَإِنْ كَانَ ذَيْلُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ وَلَا يُوجَدُ إذَا جَلَسَ عَلَى بِسَاطٍ وَإِنْ حَلَفَ لَا يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ فَمَشَى عَلَيْهَا بِنَعْلٍ أَوْ خُفٍّ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الْمَشْيَ عَلَى الْأَرْضِ هَكَذَا يَكُونُ فِي الْعُرْفِ وَإِنْ مَشْي عَلَى بِسَاطٍ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَاشٍ عَلَى الْأَرْضِ وَلَوْ مَشْي عَلَى ظَهْرِ إجَارٍ حَافِيًا أَوْ بِنَعْلَيْنِ حَنِثَ؛ لِأَنَّ ظَهْر الْإِجَارِ يُسَمَّى أَرْضًا عُرْفًا فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ الْجُلُوسَ عَلَيْهِ يَقُولُ لَهُ غَيْرُهُ اجْلِسْ عَلَى الْبِسَاطِ وَلَا تَجْلِسْ عَلَى الْأَرْضِ وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ فِي الْفُرَاتِ فَمَرَّ عَلَى الْجِسْرِ أَوْ دَخَلَ سَفِينَةً لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ دَخَلَ الْمَاءَ حَنِثَ؛ لِأَنَّ فِي الْعُرْفِ دُخُولُ الْفُرَاتِ بِالشُّرُوعِ فِي الْمَاءِ، وَالْجِسْرُ وَالسَّفِينَةُ مَا اُتُّخِذَ لِلْعَاجِزِينَ عَنْ الشُّرُوعِ فِي الْفُرَاتِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْحَاصِلَ عَلَى الْجِسْرِ أَوْ السَّفِينَةِ لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي الْفُرَاتِ عُرْفًا وَفِي النَّوَادِرِ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَغْدَادَ فَمَرَّ فِي الدِّجْلَةِ فِي السَّفِينَةِ فَهُوَ حَانِثٌ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَخْرُجْ إلَى الْحَدِّ.
(قَالَ) وَلَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ فَجَاءَ مِنْ الْمَوْصِلِ فِي السَّفِينَةِ فِي دِجْلَةَ حَتَّى دَخَلَ بَغْدَادَ كَانَ مُقِيمًا وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ إلَى الْحَدِّ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَوَّى بَيْنَهُمَا وَيَقُولُ الْمَوْضِعُ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ مِنْ بَغْدَادَ فَيَكُونُ حَانِثًا، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ الدَّارَ فَدَخَلَهَا رَاكِبًا وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: مُرَادُ الْحَالِفِ دُخُولُ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَوَطَّنُ فِيهِ أَهْلُ بَغْدَادَ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَخْرُجْ إلَى الْحَدِّ فَإِنَّ قَهْرَ الْمَاءِ يَمْنَعُ قَهْرَ غَيْرِهِ.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا إلَى كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ نَوَى شَيْئًا فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا فَلَهُ أَنْ يُكَلِّمَهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ كَانَ مُطْلَقًا لَهُ قَبْلَ الْيَمِينِ فَلَا يَمْتَنِعُ إلَّا الْقَدْرَ الْمُتَيَقَّنَ بِهِ، وَالْمُتَيَقَّنُ ذَلِكَ الْيَوْمُ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ إذَا كَانَ مُرَادُهُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ لَا يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَقِينَ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَلَا يَحْنَثُ بِالشَّكِّ.
(فَإِنْ قِيلَ) أَلَيْسَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ: عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا يَلْزَمُهُ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا (قُلْنَا) وَهُنَا لَوْ قَالَ: كَذَا وَكَذَا يَوْمًا فَالْجَوَابُ كَذَلِكَ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَقُلْ يَوْمًا فَيُحْتَمَلُ أَنَّ مُرَادَهُ السَّاعَةُ، وَالْيَوْمُ وَاللَّيْلَةُ يَشْتَمِلُ عَلَى سَاعَاتٍ كَثِيرَةٍ فَلِهَذَا لَهُ أَنْ يُكَلِّمَهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا إلَى قُدُومِ الْحَاجِّ أَوْ إلَى الْحَصَادِ فَقَدِمَ أَوَّلُ قَادِمٍ كَانَ لَهُ أَنْ يُكَلِّمَهُ؛ لِأَنَّ مُرَادَهُ وَقْتُ الْقُدُومِ وَوَقْتُ الْحَصَادِ، وَقَدْ عَلِمْنَا بِدُخُولِ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَهُوَ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ إلَى الْغَدِ فَكَمَا طَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ الْغَدِ لَهُ أَنْ يُكَلِّمَهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَؤُمُّ النَّاسَ فَأَمَّ بَعْضَهُمْ حَنِثَ؛ لِأَنَّ النَّاسَ اسْمُ جِنْسٍ وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ اسْتِغْرَاقَ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فَيَتَنَاوَلُ أَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجِنْسِ وَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ حَتَّى الشِّتَاءَ فَجَاءَ أَوَّلُ الشِّتَاءِ سَقَطَتْ الْيَمِينُ وَكَذَلِكَ الصَّيْفُ وَقَدْ بَيَّنَّا الْفُصُولَ الْأَرْبَعَةَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ وَإِنْ حَلَفَ لَا يَسْتَعِيرُ مِنْ فُلَانٍ فَاسْتَعَارَ مِنْهُ حَائِطًا يَضَعُ عَلَيْهِ جُذُوعَهُ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِعَارَةَ طَلَبُ الْعَارِيَّةِ وَقَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُ بِمَا اسْتَعَارَ مِنْ حَائِطِهِ لِيَضَعَ عَلَيْهِ جُذُوعَهُ فَهُوَ كَمَا لَوْ اسْتَعَارَ مِنْهُ بَيْتًا أَوْ دَارًا أَوْ دَابَّةً، وَلَوْ سَارَ إلَيْهِ ضَيْفًا أَوْ دَخَلَ عَلَيْهِ فَاسْتَقَى مِنْ بِئْرِهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى مُسْتَعِيرًا شَيْئًا فَإِنَّ مَوْضِعَ جُلُوسِ الضَّيْفِ وَمَا جَلَسَ عَلَيْهِ فِي يَدِ الْمُضِيفِ وَمَنْ اسْتَقَى مِنْ بِئْرٍ فِي دَارِ غَيْرِهِ لَا تَثْبُتُ يَدُهُ عَلَى الرَّشَا فَلَا يَكُونُ مُسْتَعِيرًا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَعْرِفُ هَذَا الرَّجُلَ وَهُوَ يَعْرِفُهُ بِوَجْهِهِ دُونَ اسْمِهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ يَعْرِفُهُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُشِيرَ إلَيْهِ إذَا كَانَ حَاضِرًا وَلَا يُمْكِنُهُ إحْضَارُهُ إذَا كَانَ غَائِبًا وَالثَّابِتُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ لَا يَكُونُ ثَابِتًا مُطْلَقًا، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ رَجُلًا عَنْ رَجُلٍ فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا اسْمُهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَإِنَّك إذًا لَا تَعْرِفُهُ» إلَّا أَنْ يَعْنِيَ مَعْرِفَةَ وَجْهِهِ فَإِنْ عَنِيَ ذَلِكَ فَقَدْ شَدَّدَ الْأَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ، وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِمَا نَوَى، وَهَذَا إذَا كَانَ لِلْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ اسْمٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ اسْمٌ بِأَنْ وُلِدَ مِنْ رَجُلٍ فَرَأَى الْوَلَدُ جَارَهُ وَلَكِنْ لَمْ يُسَمِّ بَعْدُ فَحَلَفَ الْجَارُ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ هَذَا الْوَلَدَ فَهُوَ حَانِثٌ؛ لِأَنَّهُ يَعْرِفُ وَجْهَهُ وَيَعْرِفُ نَسَبَهُ وَلَيْسَ لَهُ اسْمٌ خَاصٌّ لِيَشْتَرِطَ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ فَكَانَ حَانِثًا فِي يَمِينِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.